الكثير من البشر مبتلى بآفة التسرع في كل شي , التسرع في القول في الظن في ردة الفعل في الحكم على الآخرين ...إلخ. و الكثيرون كذلك يندمون بعد حين على تسرعهم أشد الندم , فمن الصعوبة بمكان إعادة المياه إلى مجاريها و الأمور إلى نصابها.و لذلك قال العرب قديما الوقاية خير من العلاج فالوقاية دائما تعمل بنسبة 100% أما العلاج فقد يتسبب في الشفاء من السقم و قد يخففه أو قد يزيده سوء و ربما لا ينفع على الإطلاق. و قد أرشدنا ديننا الحنيف إلى التبين و التثبت , قال تعالى ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)).
و في معرض هذا الحديث أتذكر المثل الصومالي (( التثبت يشترى بناقة)) و خلف هذا المثل هناك قصة قديمة حيث يحكى أنه كان هناك رجل حكيم كان الناس يسألونه عن أمورهم لينتفعوا بحكمته التي اشتهر بها. و ذات يوم أتاه رجل من البادية و قال للحكيم : " خذ ناقة و أعطني كلمة أو حكمة عوضا عنها". فجاوبه الحكيم : " إذا سألك أحد عن أي أرض الله أخير؟ , فجاوبه : أينما يقدر الله لك و يختار ". فأعاد الرجل على الحكيم قولته السابقة: " خذ ناقة و أعطني حكمة" فقال له الحكيم :" لا تخن رجلا أمَنك ". و أعاد الرجل الكرة للمرة الثالثة طالبا حكمة أخرى, فقال له الحكيم :" لا تمرن بقوم يذكرون كلام الله و يتدارسونه إلا جلست معهم". و أعاد الرجل الكرة للمرة الرابعة , فرد عليه الحكيم:" قبل أن تقوم بعمل تفكر فيه أولا و تثبت" و من هذه الحكمة الأخيرة أتى المثل الشهير (( التثبت يشترى بناقة)).
بعدما سمع الرجل الحكم الأربعة أعطى الحكيم أربعة نياق جزاء ما وعده, و حينما عاد إلى أهله تم توبيخه على فعلته و لامه أهله لوماً شديداً. إذ كيف يقايض أربعة نياق بمجرد كلام سمعه من رجل وإن كان حكيماً, و حينما لم يسلم من التوبيخ و المطالبة الدائمة بإرجاع أو تعويض النياق الأربعة هاجر الرجل بعيدا و ترك أهله فقد قرر أن يبحث عن أرض أخرى و يهرب من توبيخ عشيرته المستمر له على فعلته و سخريتهم منه.
مشى الرجل مسافة طويلة و كانت أول قرية يصل إليها قرية لها بئر واحد تشرب منه و ترتوي, و قد رأى مجموعة من أهل القرية مجتمعين حول البئر في الصباح الباكر و كأنهم ينتظرون أحداً بينما كان الرجل منهكا و متعبا, و حينما رآه أهل القرية قالوا :" اليوم أتانا رجل ذو قوة و بأس شديد" و طلبوا منه أن ينزل إلى البئر و يسقى لهم و لماشيتهم و حينما استغرب من طلبهم أصروا على طلبهم و قالوا أنها عادة لابد أن يقوم بها الضيوف الجدد حسب عرفهم.
لم يشأ الرجل أن يخالف عرف القرية خاصة و أنه غريب و أحوج ما يكون إلى شربة ماء تروى عطشه, نزل الرجل إلى البئر و سقى لأهل القرية و ماشيتهم و حينما هم على الخروج و بينما هو في منتصف المسافة للصعود إذ بحية ضخمة تخرج له من جحر داخل البئر. فسألت الرجل و قالت له : " أي أرض الله أخير؟ ", فجاوبها الرجل كما علمه الحكيم " أينما يقدر الله لك و يختار". رجعت الحية الضخمة إلى جحرها و خرج الرجل من البئر وسط استغراب أهل القرية فقد كان أول رجل يخرج حيا من البئر و ينجو من براثن الحية الضخمة.
تجمهر حوله أهل القرية و سألوه كيف استطاع الخروج و الهروب من الحية فحكى لهم ما دار بينه و بينها من حديث. استعظم الناس الرجل و أخذوه إلى سلطان القرية ليحكي له قصته مع الحية , و بعد أن سمع السلطان قصته قربه إليه و عرض عليه أن يعمل في مزرعته و أن يصبح جزءاً من عائلته فقبل بذلك. و مع مرور الأيام أظهر الرجل قدراً كبيرا من الإجتهاد في العمل و الأمانة و الأخلاق الحسنة. مما دعى السلطان إلى الوثوق به و تكليفه بأعمال أكثر أهمية, و بينما الأمور على هذا الحال قرر السلطان ذات يوم أن يسافر فترك الرجل مكانه ليرعى المزرعة و يحافظ على بيته في غيابه.
خلال غياب السلطان طمعت امرأته في الضيف و حاولت إغوائه , لكنه رفض أن يسايرها فيما تريد و منعه من ذلك الحكمة التي اشترى بها ناقة " لا تخن رجلا أمَنك " . بعد مدة من الزمان عاد السلطان فاشتكت إليه امرأته و قالت أن ضيفهم حاول التحرش بها في غيابه, كتم السلطان غضبه و أمر مجموعة من جنوده بالذهاب خارج القرية و أمرهم بأن يشعلوا ناراً عظيمة و أن يرموا فيها أول شخص يأتيهم بعد مغيب الشمس. و حينما حان وقت المغيب أمر السلطان الضيف بأن يلحق بجنوده خارج القرية لمساعدتهم في مهمة طلبها منهم, اتجه الرجل خارج القرية للحاق بالجنود و بينما هو في منتصف الطريق سمع حلقة للذكر فقرر أن يجلس و يذكر الله معهم .
تأخر الرجل في حلقة الذكر و بينما هو في الحلقة يذكر الله مع الذاكرين, كان الفضول والترقب يشتعل داخل امرأة السلطان فرغبت بأن ترى مصير الرجل بعدما احترق بالنار. فذهبت إلى الجنود و حالما وصلت إليهم نفذوا أمر السلطان دون تردد و رموها في النار, و حينما أنهى الرجل الذكر اتجه للجنود و سألهم إن كانوا بحاجة إلى مساعدته, قالوا له: " شكرا لك لقد أنهينا مهمتنا ". و بعد مدة أراد السلطان أن يتأكد من مصير الرجل فذهب و وجد زوجته ماتت محروقة و ضيفه سليم معافى فطلب منه أن يحكي له القصة بتفاصيلها, فحكى له الرجل ما كان من أمر زوجته خلال غيابه. فقال السلطان : " قتلتها خيانتها".
عاش الرجل سنين طويلة مع السلطان حتى توفي و لم يترك زوجة أو ولد و كان السلطان قد كتب إليه كل ثروته و مزرعته و أصبح الرجل من الأثرياء. فقرر ذات يوم أن يعود إلى أهله و يرى كيف انتهت إليه أحوالهم, فقدم إلى ديار عشيرته آخر الليل و دخل إلى منزله و هو مظلم فأوقد النار و حينما أوقد النار رأى رجلا غريبا ينام على فراشه. فطار الشرر من عينيه و استل خنجره حتى يقتل هذا الرجل الغريب لكنه تمالك نفسه في آخر لحظة و أيقظ زوجته , و قال لها : " كيف حالكم؟ و كيف حال العيال؟ ". فزعت امرأته و قام الرجل الغريب من النوم. فسألها " و من يكون هذا الرجل؟" فقالت له " إنه أخي أتانا زائراً, و الليلة هطلت أمطار غزيرة لذلك نام الليلة داخل المنزل, و أنت كيف حالك ؟ هل ما زلت على قيد الحياة؟".
فكانت الحكمة الأخيرة التي اشتراها الرجل بناقة هي من أنقذته من أن يقتل نسيبه خطأ " قبل أن تقوم بعمل , تفكر فيه أولا و تثبت" أو كما اشتهرت هذه المقولة أو القصة لاحقا بالمثل الشعبي (( التثبت يشترى بناقة)).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق